مقالة للاستاذ الدكتور

مقالة للاستاذ الدكتور "عصمت رمزي عبد الغفور" بعنوان "تجميد العقول بسبب الذكاء الاصطناعي"

 انطلاقًا من واجبي الأخلاقي والأكاديمي كباحث، وجدت من الضروري تسليط الضوء على هذا الموضوع البالغ الأهمية. فمنذ بداية ثورة الذكاء الاصطناعي، والتي يمكن أن تمثل نقلة نوعية إيجابية إذا ما أُحسن توظيفها بالشكل الصحيح، أخذت تتنامى لديّ مخاوف جدية تتعلق بآليات النشر العلمي وطرق تقييم البحوث. 

إذ بدأت رحلتي مع النشر منذ عام 2009، وتمكنت من نشر ما يزيد على 130 بحثًا في مجلات علمية رصينة، وقد كان آخرها بحثًا مكونًا من ست صفحات أرسلته مؤخرًا إلى إحدى المجلات العالمية، إلا أنني فوجئت بتلقي تقرير تقييم علمي يتضمن ملفًا يحوي 60 سؤالًا صيغت خلال فترة وجيزة جدًا، الأمر الذي أثار شكوكي حول اعتماد التقييم بدرجة كبيرة على أدوات الذكاء الاصطناعي.
لقد أصبح الذكاء الاصطناعي حاضرًا بقوة في مختلف مجالات الحياة: في التعليم، والعمل، بل وحتى في الترفيه. ولا يختلف اثنان في أنه قد سهل كثيرًا من المهام، غير أن الإفراط في الاعتماد عليه يهدد بجمود العقول وتوقفها عن الإنتاج الذاتي، فالطالب الذي يركن إلى الإجابات الجاهزة عوضًا عن البحث والتحليل، أو الكاتب الذي ينتظر من الخوارزمية توليد الأفكار بدلًا من استثمار طاقاته الإبداعية، فإن هذا يولد 
 لديهم ضعف في الذاكرة والاحتفاظ بالمعلومات، فكل شيء متاح عند الطلب. 
هذه الراحة تأتي على حساب ذاكرتنا العاملة وطويلة المدى، فالذاكرة ليست مجرد مستودع، إنما هي نظام حيوي يرتبط بالتفكير والفهم. وإهمالها يؤدي إلى عقل أقل مرونة وأقل قدرة على بناء روابط معرفية جديدة، ويؤدي أيضا إلى تآكل مهارات البحث والاكتشاف والشعور بالإنجاز عند العثور على معلومة قيمة بعد ساعات من البحث في المكتبات، أو تصفح الإنترنت بعمق، إذ إن هذا المسار كان يثري المعرفة ويبني مهارات الربط بين المفاهيم، أما الآن فتم اختصاره إلى مجرد استعلام. 
فالاعتماد على الذكاء الاصطناعي للبحث والتلخيص يحرمنا من متعة الاكتشاف العرضي، وتشكيل فهم أوسع للسياق، وبناء المعرفة بشكل عضوي.
لم يعد "تجميد العقول" مجرد استعارة أدبية  بل تحول إلى ظاهرة ملموسة تنتج عن إيداعنا المطلق للثقة في الآلة؛  مما يؤدي إلى إضعاف المهارات المعرفية الأساسية التي طورها الجنس البشري على مدى قرون. 
ومن هنا يتجلى الخطر الحقيقي ليس في قوة الذكاء الاصطناعي ذاته، وإنما في ضعف الإنسان أمامه وتخليه عن قدراته الطبيعية في البحث والإبداع،  لذلك يجب علينا بناء علاقة تكاملية مع هذه التكنولوجيا. 
وفي الخلاصة لا بد من أن  نجعل من الذكاء الاصطناعي أداة تساعدنا وليس  بديلا عن عقولنا، لابد من أن  ندرّب أنفسنا وأولادنا على التفكير النقدي والإبداع، ونجعل من التكنولوجيا وسيلة تدعم قدراتنا بدلا من أن تضعفها،  وإلا فسوف نجد جيلا يفتقر إلى القدرات الفكرية، ويهدد مستقبلنا بخطر الزهايمر المبكر.